إلى جنة الخلد يا والدي بإذن الله


خواطر فاقد بعد فراق الوالد رحمه الله

كتبت وأنا مسافر بين السماء والأرض على ارتفاع أكثر من ثمانية وثلاثين ألف قدم في يوم الاثنين الموافق للرابع والعشرين من شهر ذي الحجة عام سبع وثلاثين وأربعمئة وألف للهجرة.

هذه خواطر مبعثرة كتبتها على عجل، بعد مصابي الجلل، بفقد والدي المبجل، الشيخ الفاضل والمعلم العامل، الأستاذ أحمد بن عثمان المنصوري، رحمه الله وغفر له، وتجاوز عنه كل خطأ وزلل، وتقبل الله منه صالح القول والعمل، وجعل الفردوس الأعلى في الجنة له المكان والنزل، وقد وافاه رحمه الله الأجل، يوم السبت الخامس عشر من شهر ذي الحجة عام سبع وثلاثين وأربعمئة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

عندما يهم القلم بكتابة شيء عمن علمه الكتابة، وعمن تفتحت عيناه في هذه الحياة على مرآه، وحبه وحنانه وعطفه ونجواه، فلا عجب للقلم أن يعجز، ولليد أن ترتجف، فتتبعثر حينها الكلمات، وتتزاحم الأفكار والذكريات، ويغص الحلق بالعبرات، وتنحبس في اللسان الجمل والعبارات، وتتحشرج في الصدر الحسرات والآهات. كيف لا وقد نزل علي خبر وفاة والدي -رحمه الله- كالصاعقة وأنا في ديار الغربة، وقد فصلت بيني وبين مهجة فؤادي أميال من البراري والمحيطات، وأبعدتني عنه آلاف الكيلومترات، فانقطع الصوت العذب عني بعدما كنت أطرب وأتهلل لسماعه كل يوم، وغاب عن عيني وجهه ومرآه، بعد أن كانت البلسم لي في هذه الحياة، فحق لقلبي حينئذ أن يتمزق ألما، ولصدري أن يمتلئ مرارة ويعتصر حزنا، ولعيني أن تفيض دما ودمعا، وما أصدق زهير بن أبي سلمى في حالي حين قال:

ثَلاثٌ يعِزُّ الصَّبْرُ عِنــْدَ حُلُولِــها

ويَذْهَلُ عَنْهَا عَقْلُ كُلِّ لَبِيبِ

خُرُوجُ اضْطِرَارٍ مِنْ بِلادٍ تُحِبُّها

وَفُرْقَةُ خِــلَّانٍ وفَقْدُ حَبِيــب

كيف لا تكون هذه الحال، والمفارق الراحل هو والدي رحمه الله، الذي غمرنا بحبه وحنانه وعطفه وشفقته كل حياته بل حتى وهو على فراش مرضه يقاسي الشدائد ويعاني الألم، يطلب من أبنائه الصفح والسماح، فالله أكبر ما أعطفه وأعظم حنانه قلبا، وما أشد صبره وأطيب خلقه والداً وأبا، أنزل الله عليه شآبيب الرحمة والمغفرة، وغمره بواسع فضله وكرمه، وجعله من أهل الفردوس الأعلى في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وجزاه الله عنا خير الجزاء وأحسنه. لقد كان والدي رحمه الله الصاحب المعين بسؤاله واتصاله في الغربة، والسند عند الحاجة، والمستشار المخلص عندما تتعاظم الأمور، والمسلي المفرح عند المصيبة والحزن، والداعي المخلص الصادق لي ولإخوتي وأخواتي دوماً بظهر الغيب.

يقول-صلى الله عليه وسلم-:" الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه ". بفقدك يا والدي -رحمك الله- أوصد علينا باب عظيم من الخير والتوفيق ببركة دعائك ورضاك عنا، وأغلق في أوجهنا باب عظيم من أبواب الجنان والبر لا نصل إليه إلا من جنابك وبدعائك ورضاك، لقد ترك فقدك في حياتنا فراغاً لا يسد أبداً، وفي قلوبنا جرحا غائراً لا يندمل أبداً ما حيينا، إن فقد الوالد يسلخ من القلب قطعة، ويثلم في الفؤاد ثلمة لا تعود أبداً حتى نلقى الله تعالى، والذي نسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بفضله ومنه وكرمه بك في الفردوس الأعلى من الجنة.

الدار بــعدك يا أبـــي جـــوفــــاء

والنـــــاس حولي كلهم غربـــاء

لا شيء يسليني ويشرح خاطري

من بعد غاب المــبسم الوضــاء

أبتـــي أناديه فيرجع لي الصــدى

كالســهم يطعنــني بلا رحمـــاء

ويغــص في حلقي الكلام ويختفي

صوتي كأني ضعـــت في بيداء

يا رب فاجـــمـــعنا به في جنــــة

حيث النعيم وصــحبـة الشــهداء

لقد كان والدي تغمده الله برحمته نموذجاً فريداً ومثلاً عظيما في حسن التربية والخلق، وتحمل أذى الناس، والإخلاص في العمل، والصبر الجميل على البلاء الذي لازمه أكثر من عشرين عاما فلم نجده مرة متألماً ولا إلى أحد من الخلق شاكيا، وقد نزل به من اللأواء والأدواء ما تنوء بحمله الجبال، ومع ذلك كله، كان لسانه دائماً لا ينقطع عن حمد الله وشكره، والثناء عليه واحتساب الأجر في كل ما أصابه حتى توفاه الله تعالى، فاللهم اجعل ذلك كله تمحيصا له ورفعة لدرجاته في جنة خلد عند مليك مقتدر.

ومما يعزي أنفسنا في فقد والدنا -رحمه الله وغفر له- أن جمع الله له حين وفاته عددا من علامات الخير، والتي نرجو الله تعالى بفضله وكرمه أن تكون أمارات على حسن المآل وطيب الختام، فقد مد الله له في الأجل حتى صام لله يوم عرفة وما تيسر من العشر، وشهد العيد الأكبر يوم النحر، وقدم لله مخلصاً أضحيته ونحر، وألهمه الله صباح وفاته إقامة صلاة الفجر، وعند احتضاره ذكر الله ونطق بالشهادة، وتوفي -رحمه الله- مبطونا وقد بشر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنها له شهادة، وما أن فرغنا من الصلاة عليه ودفنه -رحمه الله- حتى أغاثنا الله بالمطر والرحمة، فبل الله ثراه وعم بالخير بلاده، فرحمه الله تعالى وتقبله برحمته وكرمه في صالح عباده. وإِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا والدي لَمَحْزُونُونَ، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وختاماً لا أنسى أن أقدم أجزل الشكر لكل من عزاني وأخوتي في مصابنا العظيم.

فلكل من عزى وواسى واتصل *** في القلب منزلة وحب متصل

وهذه أبيات شعرية متواضعة، خرجت من القلب تعبيراً عما في النفس من ألم، كتبتها وما أنا بشاعر:

رحماك ياربي

قصيدة شعرية في رثاء الوالد رحمه الله وأعلى في الجنة مقامه:

رحمــاك يا ربي له رحــماكـــا

رحماك فالقلب الحنون أتــاكـــا

ومــضى من الدنيا ولم يأبه لها

أو ينشــغل بحطامهـا الفتـــاكــا

أبتي ويقتلني السكوت ولا أرى

الوجـه الصــبوح مقبلاً يمــناكا

عشرون عاماً أو تزيد مصـابراً

ومرابطاً لما الــــبلاء غزاكــــا

لم تضطجر أو تشتكي للخلــق لا

لم تنحــني إلا لـــمــن سواكــــا

أبتـــي فدتك نفوســـنا ودمــــاؤنا

قلي بربك ما الذي أضنـــاكـــا

ألم شـــديد هــد جســمك يا أبـــي

قلـــي بربك ما الذي قـــواكــــا

فصبرت لم تجزع ولم ترجو سوى

الرب العظــيم له رفعـت يداكـا

والقلـــب يلهج بالدعاء وذكر من

قد قدر الأقـــدار والأفلاكــــــا

أبتـــي أحاط بك البـــلاء فلم تزل

بالشـــكر تلهج راجيا مولاكـــا

يا رب فارفع بالبــلاء مــكانـــه

واجعله في أعلى الجنان هناكا

حيث المقام يطيب لا حزن ولا

كـدر ينغــص أو بلى يغــشاكــا

يا رب أحسن في الجنان مقامه

واجعله في الفردوس حيث يراكا

أبتي رحلت كما السحابة خيرها

تعطي وتمضي لا تمن عطاكــا

ستون عاما أو تزيد عــمرتهــا

بالصبر والذكر الجميل كساكـا

في طاعة الرب الجليل نشأت لا

زيفاً عرفت ولا الضلال دعاكا

العشر صمت تغالب النفس التي

بالـداء مـــثقلة تـــهز حــشاكـــا

قد صمت يوم الحج ترجو ربنا

عفوا وغفران الذنوب مناكــــا

ضحيت يوم العيد ثم سقــطــت

لما صار داؤك مثقلاً لخطاكــا

لما انتهينا من وداعك في الثــرى

أمـر الــعظيم سحابه فســقاكـــا

وروى الغمام تراب قبرك فارتوى

ســـبحانه الرحمن بــل ثراكــا

والناس تلـــهج بالدعاء منيــبــة

بالخـير يشهد كــل من ينعاكــا

أنتـــــم شهود الله فوق ترابـــه

هذا كلام المصطفى بشراكـــا

يا رب أنزل رحمة تجلو بهـا

حـزن القلــوب ومدنا بهداكـــا

أبتي فراقك لوعة في القلب لا

تفنـى إلى أن نلتقــي ونراكــا

إن طال في دنيــا البلاء فراقنا

فبفضل ربي في الجنان لقاكـا

يا رب عبدك عاد نحوك راجيا

حسن الثواب ورحمة ورضاكا

يا رب ظلل في الحساب مقامه

في يوم لا ظل سوى رحماكا

في صحبة المختار أكرم نزله

وامــنن عليه ومــده بعطاكــا

صلى عليك الله يا نور الهدى

عدد الحجيــج وكل من لباكـا